يقفز بين الأطلال المتهدمة محاولا تفادي دوريات جنود الاحتلال وهم يبحثون في وحشية عمن هم مثله ممن فاتهم حظر التجوال
وبينما يتنقل كالقط الحذر استولت علي عقله فكرة واحدة
يجب أن يكون في منزله قبل العاشرة....يجب
يسمع دوي الرصاصات ينطلق في ذلك الحي قرب منزله..يتوقف قليلا لالتقاط أنفاسه وهو يراقب خلايا المقاومة تقاتل في شراسة..
مهما حدث... يجب أن يكون في منزله قبل العاشرة....
شعر بتلك الحركة الخافتة من خلفه..التفت في ذعر ليجد صديقه يشير له بالصمت ويشير له كي ينتقل إلي ذلك المبني المقابل..
ليل يسبغ بظلامه علي بلدة اعتادت ظلام الاحتلال والقهر..أطلال بيوت كانت قبلا عامرة بابتسامة ذابلة تحاول تمزيق أطواق الحزن التي تحاصرها..رصاصات تنطلق...أصوات المقاتلين تقترب مع اقترابهما
أكثر من ثمان وعشرين عاما لم يخذلها يوما
أكثر من أربعين عاما وهم أصدقاء لم يفترقا
وذلك الشعور الممض بأنه لن يراهما ثانية
أفاق من شروده علي ذلك الجندي الذي يصرخ بالعبرية في غضب وهو يشير إليهما نافذة المنزل المتهدمة..إنها الحرب..قد تثقل القلب..لكن خلفك عار العرب..لا تصالح ولا تتوخي الهرب
يجب أن يكون في منزله قبل العاشرة...
رصاصات الجندي تمزق صدر صديقه..يقفز علي الدرجات الحجرية في غضب..يشهر سكينا وهو يتلو الشهادتين..يراها تبتسم ابتسامتها الطفولية الفرحة إذ لا تراه وهو يقاتل لأجلها...يبيد ذلك الجيش الذي أبعده عنها ..تصيبه الرصاصات وهو يعدو فلا يتوقف..صورتها ماثلة أمامه وهي تتناول الحلوى..يحرر أرضه...يسترجع كرامته....تغرقه الدماء فلا يبالي...وبآخر أنفاسه يغمد سكينه في عنق ذلك الجندي.
**********************************
يقبض علي ذلك الملف وهو يزم شفتيه مانعا دمعة تحاول اختراق جدار عزيمته فتتوقف عاجزة علي مقلتيه.
لم يفشل بعد...انه لم يفشل بعد
لن ينتهي العالم لأنه لم يقبل في تلك الشركة علي الرغم من أحلامه التي تفتتت بكلمات ذلك الصارم الملامح الذي اخبره بأنه غير مؤهل للعمل..لا يملك الخبرة الكافية..لم يستمع إلي باقي كلماته وربما التفت وغادر الشركة وتركه قبل أن يكمل غرق في عالم ثنائي الأبعاد من الصور صوته الصمت...في صمت غادر مقر الشركة...في صمت استقل سيارة أجرة إلي موقف سيارات أجرة الأقاليم ليعود إلي بلدته..يسود الصمت داخل رأسه فلا يستمع سوي همهمات متداخلة من الآخرين
ولا يوم خفنا شئ يتعبنا ولا خفنا الزمان يغلبنا ولا يوم قلنا حتي ندمنا لو راح اللي راح
ابتسم وهو يستمع إلي تلك الجملة في مشغل الأغاني الذي وضع سماعته بأذنه بينما سيارة الأجرة تطوي الطريق المظلم إلي بلدته..مرارة ابتسامته غلبت إرادته فانحدرت تلك الدمعة الحارقة علي وجهه...انه لم يفشل بعد..مازال الطريق أمامه طويلا ويوما ما سيجد منعطفه الخاص الذي يثبت للجميع انه لم يفشل..أغمض عينيه فقط ليري ابتسامتها المطمئنة تنفذ إلي داخل روحه وتمنحه سكينة وهدوء.
تجلس في غرفتها الصغيرة تنظر لساعتها في قلق
ترفع هاتفها المحمول محاولة الاتصال به...تنتظر ثوان ..تنتهي كما انتهت سابقتها...صفير طويل ينم عن عدم الرد
لم تشعر بارتياح كبير عندما اخبرها بسفره للتقديم في تلك الشركة الكبري التي فتحت فجأة باب التعيينات شرط أن تجتاز المقابلة الشخصية
لكنها لم تخبره
فرحته وإصراره الشديد جعلتها تتحمس للأمر خاصة وهي تعلم انه ليس من ذلك النوع الذي يستطيع الجلوس لفترة طويلة بدون عمل
اخبرها قبل سفره بان تعد عدتها لاحتفال ضخم بعد أن يعود..ابتسمت حين شبهته بطوفان جارف فابتسم وقال لها انه لذلك لن يستمع لأي أسباب للرفض لأنه لن يقبل أساسا بأي رفض
تنهدت
تحاول ثانية ...ترتجف أيديها وهي تحمل الهاتف..تحجرت دموعها في مقلتها وهي تشعر بيد باردة تعتصر قلبها...لن يجيب...انه يتعمد ألا يجيب...
حتي وان لم يلتحق بتلك الشركة كيف يكون أنانيا لهذه الدرجة؟
هل طاوعه قلبه بان يري اسمها علي شاشة هاتفه فلا يجيب؟
ألا يعلم أنها تحيا بأنفاسه ونبضات قلبه؟
كانت تعلم انه رسم الكثير من الأحلام بعد عمله في تلك الشركة الكبري..كانت تعلم انه قاتل كثيرا من اجلها وأحلامهما...لم يحدث من قبل أن كان مسافرا ولم يطمئنها عليه...لم تعلم عنه شيئا منذ دخوله الشركة
اخبرها بأنه سيعود قبل العاشرة ويحكي لها تفصيلا عما حدث..لم يخذلها يوما..لم تستطع الانتظار للعاشرة..انه لا يرد...لا يرد
دوي الصراخ في الشقة المجاورة فجأة فلم تحتمل..ألقت هاتفها المحمول بعيدا وأجهشت بالبكاء
طبيبة طفولية الملامح تكره الموت
ولأنها هربت من الموت يوما....ولأنها طبيبة مقيمة في قسم الحالات الحرجة فإنها تري الموت يوما بعد يوم
يوما بعد يوم كان يأسها يعلو ويعلو كجبل عال يزهق أنفاسها
تفكر في جدوى أجهزة الإعاشة والإفاقة والمجهود إذا تحددت نهايتهم مسبقا
كثيرا ما حذرها أساتذتها من التعلق بالمرضي خاصة الميئوس حالتهم..
ولكنها لم تستمع..كل مريض كان له قصة
ابن احدهم...أخ احدهم..أب احدهم...زوج احدهم
تري اقرب أقربائه يزوره يوميا عله يفيق أثناء زيارته...
وهي تتحمل وتتحمل
تخفي بكائها ويأسها أمامه وتبتسم مشجعة
لكنها لم تعد تحتمل...مراها لذلك الشاب الذي أتي منذ دقائق معدودة ..شاب تحولت أحلامه وطموحاته إلي رقم في حجرة في قسم الحالات الحرجة بسبب جشع سائق همه جني الكثير من المال فلم ينل كفايته من النوم ...شاب كان يقبض علي ملف ورقي به أوراق ومسوغات تعيينه بيمينه وبيساره هاتف محمول يدق بلا انقطاع....ربما لترحمه من عذاب لن يشعر به ...وربما يشعر به..أفكارها المختلطة قادتها إلي حجرته ..تمد يدها لتفصله عن أجهزة الإفاقة..تدمع عيناها...لم تعد تتحمل..لم تعد تستطع..قهرها ضعفها فأخذت تعدو باكية حتي وصلت إلي حجرتها في حجرة الطوارئ وجسدها يرتجف
حتي التلفاز الصغير في حجرتها ينقل لها أخبار القتال والصراع في وطنها ..تحول وطنها من قضية دولية إلي خبر بسيط في شريط الأخبار يحكي عن وفاة احد المدنيين ونقل الآخر إلي قسم الحالات الحرجة بعد إصابات شديدة..تنهدت ونظرت للساعة..دقائق قبل العاشرة..مازال أخيها قادر علي ألا يخذلها طوال إقامتها بعيد عن الأراضي المحتلة لم ينس يوما عيد ميلادها...وبالرغم من أي شئ فمازالت تلك الطفلة التي تأكل الحلوى التي تحتاج إلي صوته المفعم بالرجولة والطمأنينة والأمان ..